فصل: تفسير الآيات (51- 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (23- 25):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)}.
يخبر تعالى عن نوح، عليه السلام، حين بعثه إلى قومه، لينذرهم عذاب الله وبأسه الشديد، وانتقامه ممن أشرك به وخالف أمره وكذب رسله، {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} أي: ألا تخافون من الله في إشراككم به؟!
فقال الملأ- وهم السادة والأكابر منهم-: {مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} يعنون: يترفع عليكم ويتعاظم بدعوى النبوة، وهو بشر مثلكم. فكيف أوحي إليه دونكم؟ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ مَلائِكَةً} أي: لو أراد أن يبعث نبيًّا، لبعث مَلَكًا من عنده ولم يكن بشرًا! {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} أي: ببعثة البشر في آبائنا الأولين. يعنون بهذا أسلافهم وأجدادهم والأمم الماضية.
وقوله: {إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي: مجنون فيما يزعمه، من أن الله أرسله إليكم، واختصه من بينكم بالوحي {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} أي: انتظروا به ريب المنون، واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا منه.

.تفسير الآيات (26- 30):

{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}.
يقول تعالى مخبرًا عن نوح، عليه السلام، أنه دعا ربه يستنصره على قومه، كما قال تعالى مخبرا عنه في الآية الأخرى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10]، وقال هاهنا: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} فعند ذلك أمره الله تعالى بصنعة السفينة وإحكامها وإتقانها، وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، أي: ذكرًا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار، وغير ذلك، وأن يحمل فيها أهله {إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} أي: سبق فيه القول من الله بالهلاك، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله، كابنه وزوجته، والله أعلم.
وقوله: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أي: عند معاينة إنزال المطر العظيم، لا تأخذنك رأفة بقومك، وشفقة عليهم، وطَمَع في تأخيرهم لعلهم يؤمنون، فإني قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر والطغيان. وقد تقدمت القصة مبسوطة في سورة هود بما يغني عن إعادة ذلك هاهنا.
وقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، كَمَا قَالَ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 12- 14]. وقد امتثل نوح، عليه السلام، هذا، كما قال تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]. فذَكَر اللهَ تعالى عند ابتداء سيره وعند انتهائه، وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزلِينَ}.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أي: إن في هذا الصنيع- وهو إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين-
{لآيَاتٍ} أي: لحججًا ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاءوا به عن الله تعالى، وأنه تعالى فاعل لما يشاء، وقادر على كل شيء، عليم بكل شيء.
وقوله: {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أي: لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين.

.تفسير الآيات (31- 41):

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)}.
يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرنًا آخرين- قيل: المراد بهم عاد، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم. وقيل: المراد بهؤلاء ثمود؛ لقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ}- وأنه تعالى أرسل فيهم رسولا منهم، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. فكذبوه وخالفوه، وأبوا من اتباعه لكونه بشرًا مثلهم، واستنكفوا عن اتباع رسول بشري، فكذبوا بلقاء الله في القيامة، وأنكروا المعاد الجثماني، وقالوا {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ. هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} أي: بعيد بعيد ذلك.
{إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي: فيما جاءكم به من الرسالة والنذارة والإخبار بالمعاد. {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ. قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} أي: استفتح عليهم الرسول واستنصَرَ ربَّه عليهم، فأجاب دعاءه، {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} أي: بمخالفتك وعنادك فيما جئتهم به، {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ} أي: وكانوا يستحقون ذلك من الله لكفرهم وطغيانهم.
والظاهر أنه اجتمع عليهم صيحة مع الريح الصَّرْصر العاصف القويّ الباردة، {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25].
وقوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} أي: صرعى هَلْكى كغثاء السيل، وهو الشيء الحقير التافه الهالك الذي لا ينتفع بشيء منه. {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، كقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] أي: بكفرهم وعنادهم ومخالفة رسول الله، فليحذر السامعون أن يكذبوا رسولهم.

.تفسير الآيات (42- 44):

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)}.
يقول تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ} أي: أمما وخلائق، {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} يعني: بل يُؤْخَذون حَسَب ما قدر لهم تعالى في كتابه المحفوظ وعلمه قبل كونهم، أمة بعد أمة، وقرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، وخَلفًا بعد سلف.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى}: قال ابن عباس: يعني يتبع بعضهم بعضًا. وهذه كقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 36]، وقوله: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} يعني: جمهورهم وأكثرهم، كقوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30].
وقوله: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} أي: أهلكناهم، كقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء: 17].
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي: أخبارًا وأحاديث للناس، كقوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} الآية [سبأ: 19] {فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}.

.تفسير الآيات (45- 49):

{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)}.
يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى، عليه السلام، وأخاه هارون إلى فرعون وملئه، بالآيات والحجج الدامغات، والبراهين القاطعات، وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما، والانقياد لأمرهما، لكونهما بَشرين كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر، تشابهت قلوبهم، فأهلك الله فرعون وملأه، وأغرقهم في يوم واحد أجمعين، وأنزل على موسى الكتاب- وهو التوراة- فيها أحكامه وأوامره ونواهيه، وذلك بعد ما قصم الله فرعون والقبط، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر؛ وبعد أن أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 43].
ثم قال تعالى:

.تفسير الآية رقم (50):

{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)}.
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم، عليهما السلام، أنه جعلهما آية للناس: أي حجة قاطعة على قدرته على ما يشاء، فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى.
وقوله: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قال الضحاك، عن ابن عباس: الربوة: المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون فيه النبات.
وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وقتادة.
قال ابن عباس: وقوله: {ذَاتِ قَرَارٍ} يقول: ذات خصب {وَمَعِينٍ} يعني: ماء ظاهرًا.
وقال مجاهد: ربوة مستوية.
وقال سعيد بن جبير: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}: استوى الماء فيها.
وقال مجاهد، وقتادة: {وَمَعِينٍ}: الماء الجاري.
ثم اختلف المفسرون في مكان هذه الربوة في أيّ أرض الله هي؟ فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ليس الربى إلا بمصر. والماء حين يرسل يكون الربى عليها القرى، ولولا الربى غرقت القرى.
وروي عن وهب بن مُنَبِّه نحو هذا، وهو بعيد جدًّا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}، قال: هي دمشق.
قال: ورُوي عن عبد الله بن سلام، والحسن، وزيد بن أسلم، وخالد بن مَعْدان نحو ذلك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وَكِيع، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قال: أنهار دمشق.
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}، قال: عيسى ابن مريم وأمه، حين أويا إلى غوطة دمشق وما حولها.
وقال عبد الرزاق، عن بشر بن رافع، عن أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة، قال: سمعت أبا هريرة يقول: في قوله: {: إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قال: هي الرملة من فلسطين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفرْيابي، حدثنا رَوّاد بن الجراح، حدثنا عباد بن عباد الخواص أبو عتبة، حدثنا السيباني، عن ابن وَعْلَة، عن كُرَيْب السَّحولي، عن مُرَّة البَهْزِي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لرجل: «إنك ميت بالربوة» فمات بالرملة. وهذا حديث غريب جدًّا.
وأقرب الأقوال في ذلك ما رواه العَوْفِيّ، عن ابن عباس في قوله: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}، قال: المعين الماء الجاري، وهو النهر الذي قال الله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24].
وكذا قال الضحاك، وقتادة: {إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}: هو بيت المقدس. فهذا والله أعلم هو الأظهر؛ لأنه المذكور في الآية الأخرى. والقرآن يفسر بعضه بعضا. وهو أولى ما يفسر به، ثم الأحاديث الصحيحة، ثم الآثار.

.تفسير الآيات (51- 56):

{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ (56)}.
يأمر تعالى عباده المرسلين، عليهم الصلاة والسلام أجمعين، بالأكل من الحلال، والقيام بالصالح من الأعمال، فدل هذا على أن الحلال عَون على العمل الصالح، فقام الأنبياء، عليهم السلام، بهذا أتم القيام. وجمعوا بين كل خير، قولا وعملا ودلالة ونصحًا، فجزاهم الله عن العباد خيرًا.
قال الحسن البصري في قوله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} قال: أما والله ما أُمِرُوا بأصفركم ولا أحمركم، ولا حلوكم ولا حامضكم، ولكن قال: انتهوا إلى الحلال منه.
وقال سعيد بن جبير، والضحاك: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} يعني: الحلال.
وقال أبو إسحاق السَّبِيعي، عن أبي مَيْسَرَةَ بن شُرَحْبِيل: كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه.
وفي الصحيح: «ما من نبي إلا رعى الغنم». قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: «نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة».
وفي الصحيح: أن داود، عليه السلام، كان يأكل من كسب يده.
وفي الصحيحين: «إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب القيام إلى الله قيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه وينام سُدسَه، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يَفر إذا لاقى».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم، عن ضَمْرَة بن حبيب، أن أم عبد الله، أخت شداد بن أوس بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم، وذلك في أول النهار وشدة الحر، فرد إليها رسولها: أنَّى كانت لك الشاة؟ فقالت: اشتريتها من مالي، فشرب منه، فلما كان الغد أتته أم عبد الله أخت شداد فقالت: يا رسول الله، بعثتُ إليك بلبن مَرثيةً لك من طول النهار وشدة الحر، فرددت إليَّ الرسول فيه؟. فقال لها: «بذلك أمرت الرسل، ألا تأكل إلا طيبا، ولا تعمل إلا صالحا».
وقد ثبت في صحيح مسلم، وجامع الترمذي، ومسند الإمام أحمد- واللفظ له- من حديث فُضَيْل بن مرزوق، عن عَدِيّ بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إنَّ الله طَيِّبٌ لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أَشْعَثَ أَغْبَرَ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، فأنَّى يستجاب لذلك».
وقال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث فُضيل بن مرزوق.
وقوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: دينكم- يا معشر الأنبياء- دين واحد، وملة واحدة، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له؛ ولهذا قال: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}، وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأنبياء، وأن قوله: {أُمَّةً وَاحِدَةً} منصوب على الحال.
وقوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} أي: الأمم الذين بُعث إليهم الأنبياء، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي: يفرحون بما هم فيه من الضلال؛ لأنهم يحسبون أنهم مهتدون؛ ولهذا قال متهددًا لهم ومتواعدًا: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} أي: في غيهم وضلالهم {حَتَّى حِينٍ} أي: إلى حين حينهم وهلاكهم، كما قال تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 17]، وقال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3].
وقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} يعني: أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا؟! كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35]، لقد أخطؤوا في ذلك وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجًا وإنظارًا وإملاء؛ ولهذا قال: {بَل لا يَشْعُرُونَ}، كما قال تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]، وقال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178]، وقال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 44، 45]، وقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر: 11- 16] وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37] والآيات في هذا كثيرة.
قال قتادة في قوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} قال: مُكِرَ والله بالقوم في أموالهم وأولادهم، يا ابن آدم، فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عُبَيْد، حدثنا أبان بن إسحاق، عن الصباح بن محمد، عن مرة الهمداني، حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قَسَم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يُعطي الدنيا من يُحِبّ ومن لا يحب، ولا يعطي الدِّين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه- قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: غشمه وظلمه- ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث».